أحسستُ بمسؤوليتي تجاه عائلتي ، وتمنيت أن أكون خير خلفٍ لخير سلف ، فتقمّصتُ شخصية أبي التي زادتني نشاطاً ، بطريقة غير مُباشرة ، فكلما اقترب الناس مني وتعاظم احتفاؤهم بي ، كُلما فجرّوا بُركاناً جديداً فيتعاظم ارتباطي بأبي، ينشط عند كل نظرة ، ينظرون إليّ أو يُقسِمُون ، توكيداً بأنّ مَلامحي وحركاتي وسُكوني وجَهور صَوتي يُشبه أبي تماماً ، كأنّي أنا هو ..؟ مُؤكدين بقولهم : أباكَ لم يمت وإنْ باغته الموت .. فأنتَ نسخة باقية ومُستمرة منه ..!؟ بعد موت أبي بفترة قصيرة ، غادرت منطقتي التي اسكن فيها إلى منطقة أخرى ، تواصلاً مع أصدقاء أبي ، اقرأهم السلام ، وأُبْلغ الذين لم يصلهم خبر مَوته، فجميعهم يعرفونني بِحكم أنّي كنت لصيقاً بأبي ، اخدم معه واذهب حيث يذهب .. ولمّا كانت المسؤولية تُحتّم عليّ البحث عن سِعة رزقٍ تُمكّنني من بقاء الحياة في بيتنا ، كما كانت تدبّ في عهد أبي ، وجب عليّ أن أقوم بنفس الترتيبات التي كان أبي يَتّخذها ويستخدمها من اجل استقرار أسرتنا ، وكان لزاماً وحتماً مقضياً أنْ أردّ جميل تربيته ، بالقيام بواجبي نحو أسرتي وإن كنت صغيراً ، فالصغير يكبر ، والمال يأتي من النشاط والعمل والحياة قائمة لا تموت إنْ وجدت من يَعْهد بقائها ويضمن استمراريتها .. وعِرْفاناً بتلك الأبوّة الخالدة ، شمّرتُ عن ساعد الجِد وتركت الخمول وودعتُ الكسل ورفضت الركون والدَعة ، فهدر الوقت في مثل هذه الحالات غير مُحبّذ ، فلماذا أبقى ساكناً، صامتاً ..؟! فليس من الدّرْبة بمكان أن اقعد خاملاً بلا نشاط أو انتظر أن يدفعني إليه أحد .؟ لن أرضى بهكذا حال ، فأنا نسخة من أبي ، صوتاً وصُورةً .. وأبي غير خامل ولا كسول ، في ديمومة ونشاط .. الكل قد شهد له الجميع وعرفوهُ من خلال عمله الدؤوب .. فلماذا يختلف حالي عن حاله .. ؟! فكرت كثيراً ، وتذكرت تنبيهات أبي ، حين يأخذني معه ( يجب أن تتنبأ بحدوث شيء ما .. في العمل .. لا شيء كامل في أي خدمة كانتْ ، لكن ثقتك بنفسك تُعيد الانكسارات وتُصلحها ..) كانت تلكم بعضاً من عباراته التي يُشدّ بها أزري ونحن سائرون في طريقنا إلى الأسواق التي دَأبنا المرور عليها .. وفجأة خطرتْ على بالي ، تلك الشاحنة التي تركها أبي بعد غيابه الأبدي عَنَّا جميعاً .. لا إخوة ذكور في هذه الأسرة الصغيرة ، غيري فأنا الوحيد ، الابن الذي سوف تعتمد عليه هذه الأسرة المكوّنة من أمي وأختان وأنا .. والشاحنة والبيت هُما كُل ما ورّثهما أبي .. ولو كانت المزرعة باقية لاشتغلت فيها ، بدل من تعب التحميل والسفر والسّواقة على هذه الشاحنة التي أجدني مُلزماً بأن اشتغل عليها ، غصباً مني سواء كنت قادراً على تحمّل مَسؤوليتها أم لم أكن قادراً ..!؟ دفعت بيدي ، كأني استعرض عضلاتي ، لا عضلات لها ولا عظم غير تلك العظمة المتصلة إلى رِسْغها ، لا تُفزع بشر ، ولا حيوان ، عظمة رقيقة ، وجسم نحيل ، نحيف ، حتى شعيرات جلدتي تكاد تتساقط كما تسقط أوراق شجرة " البيذام " وتنحسر ولكن خريف عُمري لا يزال طيعاً ، يستعد إلى الحياة بكل ما أؤتيَ من قوة .. وإن كنت غضاً طرياً لم يشتدّ عُودي بَعْد .. فقد لازمتُ أبي في كثير منها وأعرف كثيراً من خصائصها وتفاصيل طرُقاتها وأساليبها .. نعم ، فتحمّل المسؤولية التي ورّثني إيّاها ، هي خصائص تُحمّلني بحفظ كرامة أهلي من حاجة السّؤال وذلّ الفاقة ، فتوفير حياة كريمة لأسرتي منطق غاية في الأهمية ومسؤولية كبيرة ، يجب أن أكون بحجمها الكبير .. ، فأبي لم يكن يأخذني إلى البَرّ والتعرف على أعماله وطريقته إلا لأنه شعر باقتراب أجله ولكيْ يُبقي هذه المسؤولية في حُدود الأمانة المُلْقاة على كاهلي والتي يجب حفظها بقوة .. ولكيْ يُشعرني بأني الشخص الوحيد المسئول بعده والراعي لهذه الأسرة ، ولكيْ تطمئن نفسه إلى عملي وجُهدي .. بهكذا تساؤلات وحث على العمل تعزيزاً للثقة الأبوية الكريمة ، عزمت أمري وأكدت ثقتي ، وأصررتُ إصراراً لا محالة عنه ، وبدوتُ بأولى الخطوات ، فقمت بزيادة مهارتي في قيادة السيارة ، أتدرب عليها ، وبدوت أسوقها في طرقات ضيّقةٍ بين المزارع والنخيل والأشجار المختلفة ، حتى أتمكّن من الشّعور بأني الرجل الذي سأتشرف على العملْ عليها وسأجوب ليل نهار بلا كلٍّ ولا مللٍ .. كان الرجل الذي اشرف على تعليمي وتدريبي على أساسيات السياقة ، رجلاً طيباً ، يُحب أبي ويُشجعني على خِلافته في العمل .. وأنْ اعتمد على تحمّل المسؤولية بجرأة وشجاعة ، ولذا كان يُكثّف عليّ تدريباً قاسياً يمتد إلى ساعات طوال حتى غروب الشمس وزوال قرصها ذي الشعاع البرتقالي الملون بلون السفرجل .. كل ذلك من اجل توكيد مهارة السياقة الدقيقة .. وكان يقول اسمح لي إن قسوتُ عليك ، فستعرف مذاقها يوماً ما . حين أجدكَ على رُجولة وعزّة نفس .. وذات يوم ، وهو على غير عادته معي وكان فرحاً مَسروراً ، الآن يُمكن أن تعتمد عليك أُسرتك .. اليوم نفسي مُطمئنّة بأنّك رجلاً كبيراً لا تقلّ شُموخاً عن الرجال .. وربتَ على كتفي وقال يُمكنك الآن بكل فخر أن تتقدّم للحصول على رخصة القيادة بكل أمان ، وابتسم ، لا خوف عليك بَعد اليوم .. وحين تقدمت للحصول على رخصة في القيادة كان خياله معي لم يتركني ولا لحظة ، وكانتْ كلماته تشدّ من أزري وابتسامته تزيد من ثقتي ، لا خوف عليك بعد اليوم .
للقصة بقية ..
للقصة بقية ..